الماء: جوهر الثقافة

كلنا نعلم أن الماء شريان الحياة، إلا أن أهميته تتجاوز ذلك بكثير؛ فالقدرة على العثور على المياه ونقلها واستخدامها بأمان ركيزة أساسية للجوانب غير الملموسة في حياة الإنسان وتميزنا عن سائر الخلائق، كالفن والأدب والعلم والابتكار. ولولا الماء لكان المشهد الثقافي في حياتنا مختلفًا تمام الاختلاف.
وليس أدل على هذه العلاقة بين وفرة الماء وثراء الثقافة من الحضارات المزدهرة التي نشأت حول واحات تيماء وخيبر والعلا العظيمة.
يلقي الكاتب سايمون تالبوت نظرة على هذه العلاقة القديمة ويرسم لنا تفاصيلها المدهشة.
 

الماء من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان! قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]
يشكل ثلثي جسم الإنسان، ونروي به ظمأنا، ونغسل به أجسادنا، ونطهو به طعامنا، بل ويوجد في معظم المأكولات التي نتناولها. وظل الماء بالنسبة لآبائنا وأجدادنا لمئات السنين الوسيلة الأفضل للنقل والدفاع والقوة الميكانيكية.

وقامت المجتمعات وازدهرت بفضل الماء، وساهم هذا الاستقرار في تطور التقنيات والأفكار الجديدة؛ فهل كانت مصر لتبني حضارتها العظيمة لو لم تكن هبة النيل؟ وهل كانت إنجازات روما لتخرج إلى النور لولا أن حباها الله بنهر التيبر؟ 

كما كانت المياه مصدر إلهام، حركت القلوب والعقول، وأصبحت ركنًا من أركان المعتقدات. وألهبت مخيلة البشر، فكان لها دور مباشر في ظهور الشعر والأدب والفن والموسيقى.

تغير ملامح الأرض

منظر طبيعي متحول

منذ ستة آلاف عام تقريبًا، وخلال الألفية الرابعة قبل الميلاد، دخلت الجزيرة العربية فترة تغير مناخي سريع، إذ نضبت الأمطار السنوية واختفت مصادر المياه، فتحولت السافانا الخضراء إلى صحراء جرداء.

وبعد ذلك بألف عام، وفي تيماء في شمال غرب المملكة العربية السعودية، نشأ مجتمع مزدهر على ضفاف بحيرة عذبة كانت آخذة في الانكماش بالفعل. ولدينا أدلة أثرية تشير إلى تطور زراعة المحاصيل وصنع الحُلي وربما شبكات تجارية.

ولكن بات أهالي تيماء أمام تحديات شديدة الخطورة حين جفت الأهوار التي كانوا يعيشون حولها وتحولت إلى أرض قاحلة مغطاة بالملح تُعرف باسم «السبخة».

لكنهم واجهوا هذه التحديات، واكتشفوا مصادر جديدة للمياه، وأنشأوا واحة غنَّاء، وشيدوا حضارة متطورة؛ وكل ذلك يشكل فصلاً من تاريخ الجزيرة العربية وإرثها العريق.

إنها قصة من الابتكار وإدارة المياه يتردد صداها في واحتَي خيبر والعلا التاريخيتين.
 

مصادر المياه في الصحراء

مع غياب الأنهار والبحيرات العذبة الدائمة (المياه السطحية) ومع عدم هطول الأمطار بانتظام، فإن العثور على مصادر المياه في الصحراء ليس عملاً يسيرًا، لكنه ليس مستحيلاً؛ إذا بحثت في المكان الصحيح! 
وأشهر هذه المصادر المياه الجوفية، فهذه هي المياه الموجودة في خزانات طبيعية تحت سطح الأرض، في الفراغات المسامية للتربة أو بين التكوينات الصخرية.
 وتتجمع هذه المياه أحيانًا في أعماق الأرض بحيث يتعذر الوصول إليها، إلا إذا كانت محاطة بطبقة من الصخور المسامية المعروفة بالخزان الجوفي.

تسمح الصخور المسامية للمياه بالمرور والتسرب للأعلى باتجاه السطح، حيث تخرج من الأرض في صورة عيون تتدفق طبيعيًا، أو يستخرجها الإنسان عن طريق حفر الآبار.

 كانت واحة تيماء تُسقى من مثل هذا الخزان الجوفي، والحق أن «بئر هدَّاج» القديمة تعتبر من أشهر معالمها، ويُقال إنها لم تنضب قط، ولا تزال تفيض بمائها حتى يومنا هذا.
تمتلئ الكثير من الخزانات الجوفية بفضل هطول الأمطار المتدفقة من المرتفعات، مثل سلاسل الجبال والتلال والهضاب.

 وتتدفق مياه الأمطار لأسفل عبر قنوات طبيعية تُسمى «سري الماء» أو عبر طبقات الجبال مباشرةً إذا كانت الصخور مسامية (مثل صخور البازلت البركانية). وتستمر في النزول عبر طبقات الأرض حتى تصل إلى الخزان الجوفي، فيحتفظ بالمياه حتى موسم الأمطار التالي.
استمدت واحة خيبر الغنَّاء كمية كبيرة من مياهها من الأمطار الغزيرة المنهمرة على منحدرات حقل الحمم البركانية البازلتية المسمَّى «حرَّة خيبر».

يمكن لمياه الأمطار، ولا سيما الأمطار الغزيرة، أن تملأ مجاري الأنهار الجافة التي تُسمَّى «الوديان» موسميًا. وتقع هذه الوديان عادةً في مناطق مسطحة منحدرة انحدارًا طفيفًا. وتكون في بعض الأحيان عبارة عن أحواض «أنهار سريعة الزوال» لا تتجمع فيها المياه إلا بعد هطول الأمطار الغزيرة.

يمكن أن توفر الوديان المليئة بالماء مصدرًا إضافيًا لسقي البساتين القريبة منها، أو يمكن أن تفيض وتتحول إلى طوفان.
تشتهر العلا بأنها «واحة الوادي»، إذ تتدفق كمية كبيرة من مياه الأمطار التي شكلتها من المنحدرات الشرقية لحقل حمم آخر يُسمَّى «حرَّة عويرض»، ثم تمر عبر أنفاق جوفية وعلى طول سلسلة من الوديان حتى تخرج إلى وادٍ ضخم.

 وتُخزن هذه المياه في خزان جوفي من الحجر الرملي يقع في باطن السهل الذي تقع عليه العلا. ويستطيع الأهالي استخراج المياه المخزنة هنا لأن الحجر الرملي مسامي، ولولا ذلك لما تشكلت الواحة ولا ظهرت كل إنجازاتها إلى النور.
 

كيف تمكنت الحضارات القديمة التي نشأت في قلب الصحراء من العثور على المياه وإدارتها؟

الآبار

لعلك لا تلقي بالاً لأهمية البئر؛ فهي مجرد حفرة في الأرض في قاعها ماء؛ لكنها كانت تقنية ثورية غيرت حياة البشر، لا سيما في المناخات القاحلة.
تعود أقدم الآبار المعروفة في العالم إلى أوائل العصر الحجري الحديث (من 12 إلى 9 آلاف عام)، وتمثل أقدم الأمثلة على ذكاء الإنسان وابتكاره لاستخراج المياه الجوفية.

 وترتب على ذلك أن الجماعات البشرية أصبحت قادرة على الاستغناء عن الأنهار والبحيرات العذبة والانتشار في الأرض، ومنها الصحاري. وبات بوسعهم ري المحاصيل، وسقي الماشية، والاستقرار في مكان واحد؛ ولا غنى للثقافة عن الاستقرار.

لا يتطلب حفر البئر وصيانتها أعدادًا غفيرة أو أدوات خاصة، ولذلك كان بوسع المجتمعات الصغيرة فقيرة الموارد الاستفادة منها بسهولة ويسر.
وفي العلا، يوجد أقرب دليل على حفر الآبار في مدينة دادان؛ إذ اكتشف علماء الآثار بئرًا من العصر الحديدي يعود تاريخها إلى ثلاثة آلاف عام بجوار خزان أرضي؛ ويُعتقد أن مياه البئر كانت تُستخدم لملء الخزان. 

والجزء العلوي من فتحة البئر مبطنة بكتل من الحجر الرملي، في حين يوجد درج منحوت في جانب الخزان الأرضي للوصول إلى المياه الموجودة في القاع.
إلا أن الأنباط هم الذين نقلوا حفر الآبار نقلة أخرى.

فقد اكتشف العلماء أكثر من 130 بئرًا منها حتى الآن في مدينة الحِجر الواقعة على مسيرة عشرين كيلومترًا شمال بلدة العلا القديمة.

والسمة العامة أن الآبار النبطية يغلب عليها أنها أعمق (يصل عمقها إلى 17 مترًا) وفتحتها أوسع من الآبار التي حفرتها الحضارات الأخرى.
 وربما كان السبب في ذلك ذا شقين.

فالآبار العميقة يمكنها الوصول إلى مصادر أعمق بكثير من المياه الجوفية، والآبار الأوسع يمكنها تخزين كميات أكبر بكثير من مياه الأمطار أو مياه الفيضانات. ويغلب على الآبار النبطية أنها كانت عبارة عن حفرة لاستخراج المياه وخزان أرضي للاحتفاظ بها في آن واحد، وكان بعضها يحتفظ بالمياه لمدة عام كامل.

 وسواء أخرجت من باطن الأرض أم هطلت من السماء، فإن عبقرية الأنباط في إدارة مياه الآبار مكنتهم من الاستيطان في صحراء قاسية لا ترحم.

السدود

السد مثال آخر من أمثلة تقنيات استغلال المياه التي نحسبها بسيطة وما هي كذلك. فهي عبارة عن حاجز مشيد بعرض النهر لمنع المياه من المرور فيتكوَّن خزان كبير على سطح الأرض.

 وفي الجزيرة العربية، بُنيت السدود في الغالب في الوديان لتجميع مياه الأمطار الموسمية الغزيرة، ويبدو أن معظمها بُنيت لاستغلالها في سقي البساتين.

والموقع المحيط بواحة خيبر عامر بالكثير من السدود القديمة التي استُخدمت لهذه الغاية، ومنها «سد البنت» الشهير؛ يبلغ ارتفاعه 30 مترًا وطوله 130 مترًا، ويعتقد العلماء أنه مشيد منذ ثلاثة آلاف عام، ويعد نموذجًا عبقريًا على تكنولوجيا المياه في قديم الزمان. 

 للسدود غرضان، وهما تجميع مورد نادر ونفيس، ومنع الطوفان.
 وعلى النقيض من الآبار، تطلَّب بناء السد جمعًا غفيرًا من العاملين المنضبطين وأموالاً طائلة وسلطة مركزية. 
كما تطلَّب الإلمام بجغرافيا البيئة المحلية وطرق البناء وعمليات الري؛ وكلها جزء من بناء مجتمع متقدم علميًا. 

ويجسد إنشاء السد بناء ما يُعرف بمصطلح «الدول المائية»؛ وهي جماعات إقليمية منظمة تنظيمًا مركزيًا تنبع قوتها السياسية والمالية والعسكرية مباشرةً من قدرتها على استغلال المياه. 
 

توجيه مياه الفيضانات

إن توجيه مياه الفيضانات الموسمية عبر المناطق التي يسكنها الإنسان إلى نقطة تجميع أو سلسلة من نقاط التجميع كثيرًا ما يتطلب بناء جدران لحفظ المياه وقنوات لتوجيهها. وهذا شكل من أشكال التعامل مع المياه يعود إلى العصر البرونزي على الأقل وكان يُستخدم كشكل من أشكال الري في المقام الأول.

ومن الأمثلة المحتملة على ذلك في العلا ما يُسمَّى بخيف الزهراء، فهذا البناء يعود إلى العصر الحديدي وبُني في النقطة التي يضيق عندها وادي العلا، ويُعتقد أن هذا السور كان لا يحمي المستوطنات البشرية في الوادي فحسب، بل وكان يوجه المياه نحو قناتين ممتدتين بطول الجرف على جانبي الوادي.

 وكانت المياه تُستخدم بعد ذلك لسقي البساتين الموجودة في الغرب. 

القنوات

كانت القنوات تُستخدم في الجزيرة العربية لنقل المياه من موقع لآخر، إما لملء الخزانات أو لتوزيع المياه لسقي البساتين.
 

القنوات العامة

وكانت جوانب القنوات العامة مبطنة إما باللَّبِن أو بالحجارة، وكانت تمر في بعض الأحيان عبر أنفاق تحت شوارع المراكز الحضرية.

كان الاختلاف بين القنوات وسري الماء في العلا والكثير من نظيراتها في بقاع أخرى من الجزيرة العربية أن قنوات العلا كثيرًا ما كانت تمر عبر كل بستان مباشرةً، في حين أن معظم قنوات الجزيرة العربية كانت تمتد على طول حواف البساتين.

 وكانت في جدار البستان فتحة صغيرة (أو ثغرة) تسمح بمرور القناة، وكان كل مزارع يتحكم في استخدام المياه عبر سلسلة من البوابات الصغيرة أو السدود المبوَّبة.

 وكانت القنوات تمر في البساتين الخاصة، وذلك لتوفير مياه الشرب والوضوء للأهالي، وبُنيت مجمعات مائية عامة تُسمَّى «حمامات» في نقاط محددة خارج الجدران.

الخزانات الأرضية

تطلب نمو المجتمعات تخزين كميات كبيرة من المياه، وكان بناء الخزانات مثالاً آخر من بواكير تكنولوجيا المياه.

 فقد اكتشف علماء الآثار في موقع مدينة دادان القديمة حوضًا دائريًا ضخمًا من الحجر الرملي يستوعب ما يصل إلى 27 ألف لتر من مياه الأمطار أو مياه الفيضانات.

ويتجاوز قطره ثلاثة أمتار ويبلغ عمقه مترين، ويمكن بلوغ قاعه عن طريق درج داخلي.

 وعثروا على خزان يعود إلى العصر النبطي المتأخر في وادٍ صغير في الحِجر غرب جبل إثلب، يزيد عمقه قليلاً على أربعة أمتار، وكان يُملأ بقناتين صغيرتين، وتُستخرج المياه منه باستخدام قِرَب (أو دلاء) تُسحب إلى الفتحة باستخدام حبل (أو رشاء).

يعتقد بعض العلماء أن هذا الخزان الصغير نسبيًا كان يُستخدم خلال الاحتفالات؛ فربما كان ماؤه يُستخدم خلال الولائم التي تُقام في الطقوس الدينية أو للغسيل بعد ذبح القرابين أو إتمام الشعائر.
ولا ريب أن هذا الخزان يجسد تقدم الأنباط في استخدام تكنولوجيا المياه وينم عن جوانب أخرى كان للمياه دور حيوي فيها لتطوير الثقافات المتقدمة.
 

العيون

لعلَّ العيون (ويسميها أهالي العلا بالقنوات أيضًا) هي أكثر الأمثلة تطورًا على إدارة المياه التي شوهدت في الجزيرة العربية، وظلت مستخدمة من العصور القديمة وحتى القرن الثالث عشر الميلادي وما بعده.

وبناءً على الملاحظات المتعارف عليها التي تشير إلى أن «المياه تتدفق إلى أسفل» و«تجد مستوى سريانها»، فالقنوات أو العيون عبارة عن أنفاق جوفية تمتد على منحدر مائل ميلاً طفيفًا.

وتجمع المياه من مصدر مركزي (عبارة عن مروحة طميية عادةً) يُحفر فيه بئر رئيسي. وتتدفق مياه البئر للأسفل عبر النفق بفعل الجاذبية وتخرج في نقطة أدنى من المستوى الذي بدأت فيه، حيث يمكن استغلالها أو إعادة توزيعها.

ومن مزايا القناة أو العين في المناخات القاحلة جدًا أن الماء لا يتعرض للتبخر كما يحدث للماء الذي يجري على سطح الأرض.

 وتُحفر آبار ثانوية على طول القناة أو العين لتمكين العمال من تنظيفها، كما سمحت بتدفق الهواء لفرق العمال الذين دخلوا فيها من حين لآخر من خلال أنفاق مخصصة لتنظيفها للحفاظ على تدفق المياه بسلاسة.

وتعد القنوات أو العيون خير مثال للحسابات العلمية والخبرة في استغلال الماء والعمل الجماعي المنضبط. 

ومع أن نفرًا من العلماء يظنون أن نظام القنوات نشأ منذ خمسة آلاف عام تقريبًا فيما يُعرف الآن بإيران، فإن جمهرة العلماء يؤمنون بتنفيذه لأول مرة في جنوب شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الأولى قبل الميلاد.

يتطلب التخطيط للقنوات أو العيون وحفرها وتنظيفها مستوىً عاليًا من الموارد والتنظيم الاجتماعي شأنها في ذلك شأن السدود.
 خلال العصر الإسلامي، من نحو القرن السابع الميلادي، بُنيت شبكات من القنوات في أرجاء العلا.

 وتغير شكل قاع الوادي بالكامل، وحُفرت مصاطب كثيرة للسماح بالري بالجاذبية، وحُفرت بعض أراضي البساتين المرتفعة حتى تصلها مياه القنوات؛ وكانت هذه مهمة ضخمة تطلبت إزالة أطنان من التراب والطين واستغرقت أسابيع من العمل الشاق.

 وبلغ بناء قنوات العلا ذروته بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر الميلاديين، وكثيرًا ما كانت تظهر في روايات المسافرين الذين مروا عبر المنطقة. وخلال ذلك الوقت، نشر العالم العربي هذه التقنية في شمال إفريقيا وقبرص وإسبانيا وصقلية، بل إنها وصلت إلى أمريكا الجنوبية عبر إسبانيا.

كانت قنوات العلا شديدة الفعالية في سقي البساتين لدرجة أن بعض الشبكات ظلت مستخدمة حتى ثمانينيات القرن العشرين.
 

التكنولوجيا

يمكن العثور على أمثلة مبتكرة لتكنولوجيا المياه في أرجاء العالم القديم.

فقد استخدم الإغريق طواحين حجرية تعمل بالماء لطحن القمح، مما ساهم في تحسين إنتاج الغذاء وزيادة النمو السكاني. ويُعتقد أن «طاحونة بيراكورا الهيدروليكية» ابتُكرت في عام 300 قبل الميلاد تقريبًا.

وابتكر قدماء المصريين ما يُعتقد أنه كان أحد أقدم أنظمة تنقية المياه في التاريخ بإضافة كبريتات الألومنيوم (أو الشب/الشبة) في الأواني الفخارية التي تحتوي على ماء عكر.

فتفاعل الشب مع قلويات البيكربونات في الماء، فتكتلت الرواسب والجسيمات العائمة الأخرى معًا وترسبت في القاع، فكان الماء الموجود فوق ذلك المستوى نظيفًا.

ومنذ أكثر من ألفي عام، وفيما يُعرف الآن بدولة غواتيمالا، خزنت مدينة «تيكال» التي بناها شعب «المايا» المياه في خزانات ضخمة. وهذا لم يمكِّنهم من التغلب على فترات ندرة الأمطار فحسب، وإنما تمكنوا من إزالة الكثير من البكتيريا الضارة من خلال تنقية المياه بأحجار الكوارتز والزيوليت البلوريَين اللذين كانا متوفريَن في بيئتهم.

ولا ريب أن الرومان اشتهروا بقنوات نقل المياه الخاصة بهم، لكنهم استخدموا أيضًا المياه كجزء من نظام «كلواكا ماكسيما» الذي يعد من أكثر أنظمة الصرف الصحي تطورًا في العالم القديم، إذ كانت النظافة والوقاية من الأمراض لا تقل أهمية عن مياه الشرب في تطور الحضارات المزدهرة.

وتأتي تكنولوجيا المياه التي ابتكرها أهالي العلا في مصاف كل هذه الابتكارات.

الماء محرك التراث الثقافي

تتطور الثقافة عبر العصور، وتتطلب قدرًا من الاستقرار الاجتماعي والنمو السكاني والأمن؛ وللماء دور كبير في هذه الركائز الثلاث.

تتطور الثقافة عبر العصور، وتتطلب قدرًا من الاستقرار الاجتماعي والنمو السكاني والأمن؛ وللماء دور كبير في هذه الركائز الثلاث.
فقد ازدهرت الحضارة المصرية حول ضفاف النيل، وازدهرت الحضارة الرومانية حول ضفاف التيبر، وازدهرت حضارة بلاد الرافدين حول ضفاف دجلة والفرات.

وفي العلا، ازدهرت الحضارات القديمة التي شيدها الدادانيون واللحيانيون والأنباط بفضل الماء على غرار تلك الحضارات، وكان ذلك حول واحات تيماء وخيبر والعلا العامرة بالماء في قلب الصحراء. 

وازدهرت الممالك الإسلامية في الجزيرة العربية التي قامت عقب انهيار الإمبراطورية الرومانية بفضل المياه مثل سابقاتها، وزادت تلك الممالك في تطوير أنظمة الري وإدارة المياه.

وبات الماء رمزًا للنقاء والحكمة والكرم؛ فهو الشراب الطهور الذي يروي ظمأ النفوس، وصار مبعث إلهام للفن والأدب والشعر.
والتحديات التي واجهت عملية اكتشاف المياه واستخراجها وإدارتها، لا سيما في المناخات القاحلة، ألهمت المجتمعات القديمة لابتكار تطورات تقنية جبارة.

ومن الآبار البسيطة إلى القنوات المعقدة، لا تزال عزيمة خبراء الماء الأقدمين هؤلاء ومهارتهم مصدر إلهام لنا اليوم.
فلولا خبرتهم ولولا التقنيات التي ابتكروها، لما ازدهرت الحضارات العظيمة قط، ولما توفرت للكثير من الموروثات الثقافية التي ما زالت تثري حياتنا الظروف التي نمت فيها.

وفي القرن الحادي والعشرين، لا يزال الحصول على المياه النظيفة من أجل الصحة والنمو الاقتصادي والاستدامة البيئية يشكل تحديًا راهنًا للكثيرين.

ولعلنا نتأسى بحكمة القدماء في بقاع مثل العلا للتصدي لهذا التحدي ونحن نسابق الخطى نحو المشهد الثقافي في المستقبل.
 

سايمون تالبوت    |   التاريخ:١٧ مايو ٢٠٢٣

سايمون تالبوت
سايمون تالبوت كاتب ومذيع وبودكاستر يعرض عشقه للتاريخ والثقافة منذ عام 2007، واسترشد الزوار بكلماته في طائفة من أرقى المتاحف والمعارض والمواقع التاريخية في العالم وسُمع صوته عبر أثير راديو «بي بي سي»، ويعيش في شرق إنجلترا ويعشق الحصون والقلاع.